د/زغلول النجار
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
قال الله سبحانه و تعالى :
(ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) (القصص:5)
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في بدايات سورة القصص, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وثمانون (88) بعد البسملة.
وقد سميت بهذا الاسم لورود قصتين من قصص الأولين فيها, إحداهما: قصة عبد الله ونبيه موسي بن عمران مع فرعون مصر وآله وجنده, وثانيتهما: قصة قارون وقومه. ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة القصص, وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات التاريخية والعلمية, ونركز هنا علي أوجه الإعجاز التشريعي في الآية القرآنية الكريمة التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال.
من أوجه الإعجاز التشريعي في الآية الكريمة:
أنزلت سورة القصص علي رسول الله- صلي الله عليه وسلم- في مكة المكرمة, والمسلمون قلة مستضعفة, في مقابل قوة المشركين التي كانت مهيمنة متجبرة ومسيطرة علي أرض مكة وما حولها. وجاءت الآيات في سورة القصص مبشرة رسول الله والقلة المستضعفة من الذين آمنوا معه بالنصر علي كفار ومشركي قريش- رغم كثرة عددهم ووفرة أموالهم- كما نصر موسي والمستضعفين من قومه علي فرعون وجنده- رغم الفارق الهائل بين القوتين في العدد والعتاد. وكان الفرعون قد علا في أرض مصر, وفرق أهلها شيعا, وأصبح طاغية متجبرا في الأرض, محاربا لدين الله وللمؤمنين من عباده, يذبح أبناءهم, ويستحيي نساءهم في سطوة بالغة وقسوة مشهودة. وللرد علي ذلك الصلف والظلم بعث الله- سبحانه وتعالي- موسي بن عمران طفلا رضيعا, لا حول له ولا قوة, يتهدد به فرعون وملكه, فيغزو قصره رغم أنفه ويعيش فيه. ثم ينهار جبروت الفرعون أمام ما وضع الله- تعالي- في هذا الرضيع من أسرار. وتكفي في ذلك الإشارة إلي أن الفرعون لم يتمكن من قتل هذا الرضيع علي الرغم من ميلاده في عام كان القانون الفرعوني يحتم فيه قتل كل الذكور من مواليد المؤمنين. وكان ذلك بسبب أن الله- تعالي- أدخل هذا الطفل الرضيع في رعايته, وألقي عليه محبة من عنده, وساق تابوته الي داخل قصر الفرعون, فلم يستطع قتله علي الرغم من عداوته الشديدة لقومه, وخوفه منهم.
وبعد أن تلقي موسي- عليه السلام- رسالة ربه, تحدي بها الفرعون وجنده, فنصره الله- تعالي- عليهم نصرا مؤزرا.
وعرض القرآن الكريم لهذه القصة جاء ليؤكد لرسول الله- صلي الله عليه وسلم- وللمؤمنين به في زمانه, ومن بعده إلي قيام الساعة حقيقة أنه لا سلطان في هذا الوجود لغير الله- تعالي-, ولا نجاة من مخاطر هذا الوجود إلا بإرادته ورحمته, وذلك لأن سلطان العباد قاصر ومحدود, وقدراتهم علي الإنقاذ محدودة, فعلي كل من يريد النصر والتمكين أن يكون مع الله, فمن كان في جانب الله- تعالي- وتمسك بإيمانه به, وتوكل عليه كان الله معه, ومنحه العزة والتمكين في الأرض. ومن كان الله معه كان دوما منتصرا علي الرغم من ضعف قدراته المادية والبشرية ومحدوديتها. ومن ضحي بمعية ربه, واستغني عن تأييده, تركه ربه لضعفه الذي لا يغني عنه شيئا. وإذا يستحيل عليه أن يحقق لنفسه نصرا, أو أمنا, أو طمأنينة بال, ولو وقفت بجانبه كل قوي الأرض البشرية والمادية.
ولذلك فإنه كلما استقوي أهل الباطل علي أهل الحق, وغرتهم قوتهم المادية علي البطش بهم, ومحاولة القضاء عليهم, وإشاعة الفساد بينهم, تجلت قدرة الله- تعالي- التي تبطش بأهل الباطل وتقضي عليهم, وتمكن لأهل الحق في الأرض, ولذلك قال- تعالي-( ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (القصص:5).
ونمن في اللغة أي: نتفضل وننعم, ويقال (من) عليه (منا) بكذا أي أنعم عليه به من غير تعب ولا نصب.
(الذين استضعفوا) أي: الذين عدهم الناس من الضعفاء, المستضعفين في الأرض.
و( نجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) أي: ونجعل هؤلاء المستضعفين أئمة وقادة في الخير, ونجعلهم ورثة للأرض.
والأصل في التعامل مع القرآن الكريم أن العبرة هي بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولذلك فإن معني الآية يبقي ثابتا علي الرغم من أنها نزلت في عبد الله ونبيه موسي بن عمران وقومه الذين اضطهدهم فرعون مصر وجنوده وأذاقوهم ويلات العذاب, فأخذهم الله ـ تعالي ـ أخذ عزيز مقتدر, ونجي موسي والذين كانوا قد آمنوا معه. ويعني ذلك أن الظلم مرتعه وخيم, وأن المظلوم لا بد وأن ينصفه الله ـ تعالي ـ الذي تعهد بنصره ولو بعد حين, والحاكم المسلم إذا كان ظالما, كان أبغض إلي الله من الحاكم الكافر إذا كان عادلا.
وقد رأينا ذلك يتكرر عبر التاريخ, ونراه يتحقق في زماننا الراهن, فبعد أن عاش كثير من الدول العربية لعدة عقود تحت حكم بوليسي, شمولي, ظالم, جاءت ثورات الربيع العربي لتفك أسر المظلومين وتضع الظالمين تحت طائلة المحاكمات وفي غياهب السجون.
فقد حكمت معظم شعوب الدول العربية لعدة عقود بقانون الطوارئ الذي أدي إلي الانفراد بالسلطة السياسية والعسكرية والأمنية, ووضعها في أيدي عدد قليل من الأفراد الذين جعلت منهم حكاما مطلقي الأيدي في حقوق العباد. وقد أدي ذلك إلي استشراء الفساد في مختلف نواحي الحياة, حتي نهبت ثروات البلاد وانهار الاقتصاد. وتضاعفت معدلات البطالة والفقر, وارتمي الحكام في أحضان أعداء الأمة. وفي محاولة الطغم الحاكمة لحماية جرائمها اطلقت أيدي الزمر الفاسدة من حولها في استباحة حقوق المواطنين بلا حدود, فتزايدت الاضرابات, وكثرت الاحتجاجات, حتي أطاحت بمعظم هذه النظم الفاسدة. ونجحت هذه الشعوب في تطهير بلادها من هؤلاء الحكام الفاسدين, وأوصلت إلي الحكم بانتخابات حرة نزيهة أوصلت صفوة من أبنائها الذين نرجو من الله ان يوفقها لاختيار حاكم عادل يخاف الله ويتقيه في أمته ويقدر حجم المسئولية الملقاة علي عاتقه أمام الله وأمام الناس... (والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (يوسف:21).
وهنا تتضح لمحة الإعجاز التشريعي في الآية التي اخترناها عنوانا لهذا المقال, والتي تؤكد حقيقة أنه لا سلطان في هذا الوجود كله لغير الله, ولا قدرة بجوار قدرة الله, ولا ناصر غير الله. ولو أدرك بنو آدم ذلك ما تظالموا, ولا تحاربوا, ولا جار بعضهم علي بعض, ولا سفك بعضهم دماء بعض, لأن الله ـ تعالي ـ هو مالك الملك, ومجري الخير للعباد, ومحقق عدله المطلق بينهم. والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل, وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته الي يوم الدين, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.